من يتكلم بلغتين... يفكر بدماغين

اليوم أصبح مؤكدا وجود تأثير متبادل بين تعلمنا لأشياء جديدة وحدوث تغييرات مادية وعصبية في أدمغتنا؛ فكيميائية الدماغ تتغير - ونسبة الترابط بين خلاياه تزداد - حين نتعلم أو نحفظ شيئا جديدا.. غير أن هذه العملية تصل إلى مرحلة التشبع وتصبح صعبة وبطيئة كلما تقدمنا في السن (ولعلك تحسرت أكثر من مرة على عدم حفظك للقرآن أو تعلمك لغة أجنبية أثناء الطفولة.

وفي المقابل يولد الطفل ودماغه (طازجة) وخال تقريبا من أي روابط عصبية مما يعطيها فرصاً أوسع للنمو والتشعب من خلال تعلم أشياء جديدة . ويساند هذه الحقيقة أن من أتيحت لهم فرصة الحفظ والتعلم قبل سن المدرسة يتفوقون على أقرانهم في المراحل التالية!!
وكان العلماء في جامعة لندن قد اكتشفوا أن تعلم لغة ثانية يرفع معدل الذكاء ويشحذ ملكات الذهن . وهذه النتيجة تم إثباتها من خلال دراسة أدمغة 105أشخاص يجيدون التحدث بلغتين - ثمانون منهم يعملون في قسم "الأخبار الدولية" في محطة ال BBC.. و سرعان ما اتضح أن تعلم لغة أجنبية ينمي ويحفز عمل المنطقة الرمادية في الدماغ المسئولة عن إدراك المعلومات والتعامل معها بشكل ذكي.. بل اتضح أن من يتعلمون لغة ثانية (في طفولتهم المبكرة) تنمو لديهم تلك المنطقة بشكل أفضل ممن تعلمها في سن متقدمة (وبالتالي يتجاوز الأمر مجرد الحديث بلسان أجنبي غريب.

وكان العلماء قد قسموا المجموعة الى ثلاث فئات وصوروا أدمغتهم بطريقة مقطعية.. الفئة الأولى لأشخاص يتحدثون فقط لغتهم الوطنية، والثانية لأشخاص تعلموا لغة أجنبية بين سن العاشرة والخامسة عشرة، أما الفئة الثالثة فتعلموا لُغتين مختلفتين منذ الولادة أو قبل سن الخامسة.. ومن خلال الصور المقطعية ثبت وجود فرق واضح في المادة الرمادية بين ثنائيي اللغة ووحيدي اللغة - وبين من تعلم لغة أجنبية قبل سن الخامسة ومن تعلمها في سن متقدمة!! .. وهذا الاكتشاف يكاد يتطابق مع دراسة مشابهة أجريت في إيطاليا قارنت بين أشخاص تعلموا الانجليزية (بين سن الثانية، والرابعة والثلاثين) وآخرين لايتكلمون غير لغتهم الأم ، وفي سويسرا تعمد بعض المدارس الى تدريس الأطفال بلغتين مختلفتين - غالبا ألمانية وفرنسية - الأمر الذي ساهم فعلا في رفع ذكائهم مقارنة بأقرانهم وحيدي اللغة . وفي ماليزيا - حيث سبق لمهاتير محمد تدشين حملة وطنية لتعلم اللغات الأجنبية - ارتفعت معدلات الذكاء بين أطفال المدارس التي طبقت برامج اللغات الأجنبية بصورة واضحة!!
وفي الحقيقة حتى لو تجاهلنا جميع المعطيات السابقة لانستطيع تجاهل أن للغة الثانية تأثيرا إيجابيا على الفرد (ليس فقط من الناحية البيولوجية والعصبية) بل ومن الناحية الشخصية والثقافية.. فتعلم "لغة ثانية" يطلق العقل من سجن المحلية، ويخرج الفكر من دائرة القومية، ويتيح له الاطلاع على ثقافات عالمية وخبرات أجنبية لا تتاح للجميع.. وكل لغة أجنبية يتم إتقانها تفتح نافذة مختلفة وواسعة على أفكار وإبداعات ومؤلفات جديدة قد تفوق ما يوجد في اللغة الأم (... ويكفي القول ان ما يؤلف عن الإسلام باللغة الانجليزية يزيد بعشرين ضعف ما يؤلف عنه باللغة العربية، وأن مايوجد على شبكة الانترنت بهذه اللغة يفوق ما يوجد باللغة العربية بألفي ضعف على الأقل.
 وطالما اعتبرنا "اللسان" ترجمان الدماغ ومرآة الذاكرة؛ يمكن القول ان من يتحدث بلسانين مختلفين يفكر بدماغين متوازيين ويرى الأمور من زاويتين متناظرتين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق